الحرب السرية العلنية- إسرائيل وإيران.. أهداف متصاعدة وتداعيات إقليمية

النزاع الإسرائيلي الإيراني لا يزال مفتوحًا على مصراعيه، وربما لم يصل إلى قمته بعد. الأطراف المتورطة فيه، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، تضع نصب أعينها أهدافًا طموحة وذات سقف عالٍ، تتسم بأهمية قصوى وخطورة بالغة، ما يجعل من المحتمل أن تعيد تشكيل المنطقة، بما في ذلك موازين القوى، الديناميكيات، وحتى الخرائط، لعقود مقبلة.
من وجهة نظر إسرائيلية، الهجوم الاستباقي المذهل في هذه المعركة، وما كشف عنه من تحضيرات دقيقة ومسبقة، على الأصعدة العسكرية والسياسية والاستخباراتية واللوجستية، والتي تعود إلى عقد أو عقدين من الزمن، يشير إلى أن تل أبيب لديها مخططات تتجاوز مجرد إلحاق "ضرر مستمر" ببرنامج طهران النووي، وتتعدى تفكيك هذا البرنامج على غرار النموذج الليبي، لتصل إلى تجريد النظام الإيراني من قدراته الباليستية والصاروخية المتطورة، تمهيدًا للانتقال من استراتيجية "تغيير السياسات" إلى استراتيجية أوسع نطاقًا ترمي إلى "تغيير النظام" بأكمله.
لم تعد إسرائيل تخفي مقاصدها في هذه الحرب ضد إيران، ولم نعد بحاجة إلى تقارير استخباراتية أو تحليلات استراتيجية لفهم هذه المقاصد، فهم يعلنونها بصراحة ووضوح. من الحكمة أن نأخذ هذه التصريحات على محمل الجد، وألا نعتمد على تقديرات متفائلة أو رهانات غير واقعية.
إسرائيل تكرر وتستنسخ بعضًا من تكتيكات حروبها السابقة ضد العرب والفلسطينيين في هذا الصراع الدائر مع إيران، بما في ذلك "الخداع الاستراتيجي"، و"المباغتة والصدمة" كما حدث في حرب يونيو 1967، و"قطع الرأس/الرؤوس" في بداية الحرب كما في لبنان، و"الاختراق الأمني الاستراتيجي".
وتقوم إسرائيل بتكثيف استخدام مصطلحات مثل "الاستباحة" و"استراتيجية الضاحية"، بل وبدأت مبكرًا في الحديث عن "اليوم التالي" في إيران، وتجري اتصالات مكثفة مع فلول النظام الشاهنشاهي السابق، وفصائل معارضة مسلحة داخل إيران وخارجها، من انفصاليين ومنتمين إلى جماعات معارضة أخرى. أرى أن جهاز "الموساد" لم يكن ليحقق كل هذه الاختراقات الميدانية بالاعتماد على قدراته الذاتية فقط، بل بالاستعانة بهذه القوى، ذات الانتشار الأوسع والقدرة الأكبر على التحرك داخل الأراضي الإيرانية.
لا يعني ذلك بالضرورة أن كل ما تتمناه إسرائيل سيتحقق، فالنتيجة النهائية تعتمد على مجموعة من العوامل والشروط، التي قد تزيد من التباين بين التوقعات والنتائج الفعلية:
- أول هذه الشروط وأهمها، قدرة إيران على الصمود واستعادة زمام المبادرة، ومدى نجاحها في إعادة بناء توازن "الردع والتوازن" في علاقتها مع إسرائيل.
- ثانيًا، استعداد الولايات المتحدة، على وجه الخصوص، لتوسيع نطاق مشاركتها في هذا الصراع، من خلال استهداف الأهداف التي تعجز الآلة العسكرية الإسرائيلية عن الوصول إليها، وإلحاق أكبر قدر من الضرر بالمواقع المحصنة التي يقوم عليها البرنامج النووي الإيراني.
حتى الآن، يبدو أن كلا الشرطين غير متوفرين لحكومة اليمين الإسرائيلي المتطرفة، فطهران لم تستسلم، بل على العكس من ذلك، أظهرت تماسكًا وصمودًا، وبدأت في استعادة "التوازن والردع". وواشنطن لا "تساير" تل أبيب في سقف أهدافها وتوقعاتها المرتفعة جدًا، وتكتفي بما هو أقل من ذلك، على الرغم من أنها قد لا تمانع في اللحاق بتل أبيب، بل وحتى المبادرة إلى العمل على تحقيق هذه الأهداف، إذا تأكدت لديها ولو للحظة واحدة، أن هناك فرصة لتحقيقها بسرعة وبتكلفة معقولة من الناحية العسكرية والاقتصادية.
من منظور أمريكي، سبق لواشنطن أن وافقت على احتفاظ طهران بدائرة تخصيب منخفض (3.6 بالمئة) لليورانيوم على أراضيها، وهو ما يكفي للاستخدامات السلمية والمدنية، في ظل شروط مشددة من التحقق والتفتيش والرقابة. كانت هذه هي مضامين اتفاق فيينا في عام 2015، قبل أن تتنصل إدارة ترامب الأولى من الاتفاق وتنسحب منه، وقبل أن يعاود ترامب، في فترة ولايته الثانية، الحديث عن "وقف التخصيب" على الأراضي الإيرانية.
الولايات المتحدة تشارك إسرائيل "قلقها" بشأن برنامج إيران الصاروخي، و"دورها المزعزع للاستقرار في المنطقة"، وهي العبارة التي أصبحت لازمة في الخطاب السياسي الخارجي الأمريكي، وكذلك في العديد من الدول الأوروبية.
واشنطن، التي جاء رئيسها بوعود السلام في كل مكان، وعلى مختلف الجبهات والأزمات، مدفوعًا بـ"حلم نوبل" وجائزة السلام المرموقة، لا تفضل "التورط" في حرب كبرى في الشرق الأوسط، ولا تعطي "الوزن نفسه" لمخاوف تل أبيب وهواجسها. إلا أن أداء رئيسها، الذي يتعامل باستخفاف وتبسيط مع أعقد الأزمات وأكثرها حساسية وتعقيدًا مع الحاضر والتاريخ والثقافة والجغرافيا السياسية، لا يتوقف عن إطلاق التهديدات والوعيد، وفرض المهل الزمنية التعسفية، مما أدى إلى الفشل في إدارة معظم هذه الملفات، من غزة إلى أوكرانيا، واليوم إيران وإسرائيل، والاستعاضة عن الفشل، بادعاء النجاح في منع الحروب أو إيقافها على جبهات أخرى: باكستان والهند، وأخيراً مصر وإثيوبيا (؟!).
وإذا كانت إدارة ترامب، قد أظهرت وهي تعالج بعض أزمات منطقتنا، قدرًا من "الابتعاد" عن أولويات السياسة الإسرائيلية وحسابات نتنياهو، كما في مقاربة الملف السوري والانفتاح على النظام الجديد، وكما في شق قنوات اتصال مباشر مع حماس بالضد من الرغبة الإسرائيلية، وإبرام اتفاق مع جماعة أنصار الله في اليمن، والخروج من "الحرب العبثية" التي شنها على هذا البلد المنهك بحروبه وحروب الآخرين عليه، إلا أن هذه الإدارة، تعود فتؤكد التصاقها بالأجندة الإسرائيلية في قضايا مفصلية أكثر أهمية، وبالذات في ملفي إيران وغزة، حتى وإن كانت لها "تفضيلاتها" المختلفة عن أولويات نتنياهو، إلا أنها دائمًا ما تعود لضبط خطواتها على الإيقاع الإسرائيلي.
هل ستدخل واشنطن الحرب الإسرائيلية على إيران من خلال استخدام القاذفات الاستراتيجية والقنابل الأكثر فتكًا وتدميرًا في العالم؟
سؤال يتردد في أذهان السياسيين والمراقبين في المنطقة والعالم، وأرى أنه من سوء التقدير وقلة الحكمة استبعاد هذا السيناريو. أعتقد أن هذا السيناريو سيتحقق في إحدى الحالتين التاليتين، أو كلتيهما: أولاً، إذا تجاوزت ردود إيران وحلفائها على العدوان الإسرائيلي الخطوط الحمراء، كأن يتم استهداف قواعد أو أصول أو مصالح أمريكية في المنطقة، وعندها سيصبح التدخل واسع النطاق أمرًا حتميًا، وسيحظى بدعم واسع من مختلف الأطياف القيادية والمؤسسية الأمريكية، ودعم أوروبي يبدو مضمونًا مسبقًا، خاصة من دول "الترويكا" الثلاث: لندن وباريس وبرلين.
وثانيًا، إذا شعرت واشنطن بأن تل أبيب تتعرض لخطر حقيقي، يتجاوز الخسائر اليومية التي نشاهدها ونتابعها حتى الآن، وإذا تبين لها أن هذه الحرب ستنتهي بهزيمة لإسرائيل، مما سيؤدي إلى تبديد المكاسب التي تحققت خلال الأشهر العشرين الماضية، وإعادة الاعتبار لمحور طهران الذي تضرر بشدة جراء الحروب الإسرائيلية متعددة الجبهات التي أعقبت السابع من أكتوبر 2023، عندها سيكون التدخل الأمريكي واسع النطاق هو التجسيد العملي لتعهدات ترامب وإدارته، بل ومختلف الإدارات الأمريكية المتعاقبة، بالالتزام بأمن إسرائيل والدفاع عنها والحفاظ على تفوقها.
يتعين على طهران وحلفائها أن ينظروا إلى حسابات السياسة والميدان من هذا المنظور المعقد، وتفادي سوء التقدير. أرى أنه خلف التصريحات النارية لبعض القادة والمسؤولين الإيرانيين، هناك "عقل إيراني بارد" منهمك الآن في إجراء هذه الحسابات والتحليلات.
من وجهة نظر إيرانية، هناك أولوية قصوى لإصلاح "الضرر" الذي ألحقته إسرائيل بمنظومة القيادة والسيطرة والتحكم، حيث نجحت تل أبيب في "قطع رأس" الجهازين الأمني والعسكري، واغتالت نخبة من علماء طهران ومهندسيها، تليها أولوية استعادة الهيبة وبناء "التوازن والردع" في مواجهة مشروع يهدف إلى تحويل طهران إلى ضاحية جنوبية جديدة، وأصفهان إلى "خان يونس 2".
لا يعلو صوت في إيران فوق صوت الثأر والانتقام، الذي رفعت راياته الحمراء فوق مآذن المساجد والحسينيات. لا مجال لمفاوضات مباشرة أو غير مباشرة مع إسرائيل تحت عنوان "وقف إطلاق النار"، ولا استعجال في استئناف المفاوضات مع شريك إسرائيل في هذا الصراع، إدارة ترامب.
والأهم من كل ذلك، عدم التنازل عن الحد الأدنى الذي قبلت به إيران في الجولات التفاوضية الخمس التي سبقت بدء الحرب الإسرائيلية: التخصيب بنسبة 3.6 بالمئة على الأراضي الإيرانية، والاعتراف بحقوق طهران النووية المشروعة في الاستخدام المدني السلمي للطاقة النووية، وعدم مناقشة مشروعها الصاروخي أو دورها الإقليمي.
أي تنازل عن هذه العناوين/الحقوق، يعني أن إسرائيل قد انتصرت في فرض إملاءاتها على إيران، وسيعني أيضًا أن ترامب، الذي سعى باستخدام "العصا الإسرائيلية" لتذليل العقبات أمام قبول إيران بإملاءاته، قد حقق فوزًا ساحقًا عليها.
يمكن لإيران أن تذهب بعيدًا في تقديم الضمانات والتطمينات بشأن سلمية ومدنية برنامجها النووي، وأن تضمن أي اتفاق قادم ما يكفي من شروط وقواعد الشفافية والتحقق والتفتيش والرقابة، مقابل رفع العقوبات، أو الجزء الأكبر منها، وخلاف ذلك، تكون إسرائيل قد نجحت في تمكين ترامب من إعلان فوز "دبلوماسية القوة" التي استعاض بها عن "قوة الدبلوماسية".
لا تزال الحرب في بدايتها، ومن السابق لأوانه تقديم تقديرات بشأن نهايتها، ولكننا نستطيع الآن تحديد عناصر النصر والهزيمة فيها: ترامب ينتصر إذا أجبر إيران على تفكيك برنامجها النووي والإبقاء على هياكل لا قيمة لها بذاتها، بل بسلاسل التوريد من الخارج التي يسيطر عليها في الغالب.
نتنياهو ينتصر إذا جرد طهران من مخالبها النووية وقدراتها الباليستية، ويصبح نصره "مطلقًا" إذا وضع مشروع "تغيير النظام" على مسار التنفيذ، من خلال إطلاق ديناميكيات داخلية كفيلة بإنجاز المهمة ولو بعد حين.
وإيران تنتصر إذا استعادت توازن "الردع والتوازن"، وإن بشروط أصعب من ذي قبل، وإن حافظت على الحد الأدنى من حقوقها النووية كما حددتها هي بنفسها في مئات الخطابات والمواقف والمراسلات. الحرب مستمرة وللحديث بقية.